الشاعر فهد العسكر

فهد العسكر مواطن كويتي، عاش خلال الفترة 1917 وحتى 1951، لم يلحق ركب الحضارة، ولم يشاهد بلده تتطور بعيدا عن سيطرة من عاداهم، ثم تنهار بعد أن أحكموا قبضتها عليها.




العسكر عاش حياته بطولها وعرضها، لا يشابه إلا نفسه، ومستقلا لا يسمع إلا صوته، بدأت نبوغته حينما تتلمذ في المدرسة المباركية على أيدي أساتذة الكويت محمود شوقي الأيوبي وعبد الله النوري والسيد عمر عاصم، وانتقل إلى الشعر بعد أن رعاه الأيوبي وساعده في بداياته، حتى شب عوده شاعرا.




أنكب على القراءة، وكانت مكتبة ابن رويح، هي المكتبة الوحيدة في الكويت خلال العشرينيات التي تفتح أبوبها للقراء، وتقدم لهم خدمة الاستعارة، مقابل أجر زهيد، فتعرف على الشعراء، وواكب ما يدور على الساحة الشعرية من تطورات.




يقول عنه عبد الله زكريا الأنصاري في كتابه فهد العسكر حياته وشعره، أنه بدأ حياته متدينا، فقد كان يؤذن داعيا الناس للصلاة، لكن مع انغماسه بالقراءة، استنار تدريجيا، واتجه إلى حب الحياة، فبدأ عزلته الطوعية، بعدما اصطدم أكثر من مرة مع المتزمتين في المجتمع، فعادى المتعصبين، وبادلوه العداء، وقادوا حملة ضده، أدت إلى عزله نهائيا من الحياة العامة، فتطرف في مواقفه، وازدادت عزلته بقدر ما كانوا يهاجمونه.




عاش فهد بعد أن هجره أهله، وحيدا في "بخار" في سوق واجف، معتمدا على ما يتلقاه من مساعدات تقدمها له أمه، ومن ما يحصل عليها من مكافآت وعطايا مقابل ما ينشر من أشعاره في الصحف والمجلات.




كانت الخمر سلوته الوحيدة، ووحدها التي تخرجه من عزلته، وتحلق به في فضاءات تبعده عن واقعه، إلا أنه لم يكن يلبث إلا أن يعود إلى مأساته، فيقابلها بشاعريته، فتنساب منه الكلمات ليرسم بها قصيدة تلو الأخرى، تنفس عنه ضيقه.




فهد العسكر أول من أسس منتدى أدبي في الكويت، ورغم محدودية رواده، إلا أن مجلسه كان قبلة لشعراء وأدباء ورواة، يتبادلون الأحاديث عن الشعر والأدب، ويقدمون جديد أعمالهم، ويستمعون إلى جديده، وهو ما ساهم في إيصال أشعاره إلى الأجيال التي أعقبته، خاصة وأن روح العداء التي سادت كل ما يتعلق بفهد العسكر، أدت إلى حرق أشعاره بعد وفاته.




ازدادت عزلة فهد العسكر بعد أن أصيب بالعمى، إذ بدأ نظره يخف تدريجيا، لكن فقر الحال، وقلة المال، وارتفاع تكلفة العلاج أدوا إلى أن يفقد بصره، فانطوى أكثر على نفسه، ثم ما لبث أن أصيب بداء الدرن، نظرا لعيشه في مكان غير صحي، وانتصر عليه المرض.




أدخل للمستشفي الأميري في يونيو 1951، ومع تقدم المرض، كانت حالته الصحية تزداد سوء، فتوفي وحيدا بعد أن قضى شهرين ونصف في المستشفى، فغُسل وكُفن، وحمله أربعة أشخاص إلى مسجد المديرس، فصلوا عليه، وحملوه بعدها إلى مقبرة نايف، حيث دفن وحيدا بعد أن عاش حياته بائسا مهموما ومعزولا.




فهد العسكر جاء وعاش ورحل وحيدا، شاعرا هادئا، معاديا للتزمت والتطرف، فكتب بكلماته صفحته في التاريخ، التي شاء أن تكون مثله، ملونة بحب الحياة.




أرثي اليوم فهد العسكر، الذي أجدني في كثير منه، بل ربما شبه مقتنع بأننا ربما التقينا سوية في حياة سابقة، في مكان ما، فتبادلنا الحديث، وتصادقنا بعدها، إن لم أكن أنا هو فعلا يوما ما.




أما لماذا فهد العسكر، فأنشر هنا، ما كتبته في مدونتي الفقيدة، التي طالتها أيدي الغدر، نهاية العام الماضي، أول بوست نشرته في مايو 2007، والذي جاء فيه تحت عنوان لماذا التدوين ولماذا فهد العسكر ما يلي:




لطالما راودتني فكرة التدوين، وبقدر ما ألحت علي نفسي الدخول إلى عالم "النت" وتقديم مادة لجمهوره، تكون أقرب للرأي منها للمعلومة، بقدر ما كنت دائما ما ألجم إصرارها بداعي الرغبة بالتميز وتقديم "شيء" مختلف، فقررت أولا التجول في عالم المدونات بحثا عن شيء "آخر" أقدمه، ولا استطيع الجزم بأنني وقفت على تجارب جميع الزملاء المدونين، إلا أنني بالمقابل استفدت مما قدموه، سواء شكلا أو مضمونا، واليوم طاوعت نفسي (مع إيماني بأنها دائما ما تأمرني بالسوء) ودشنت هذه المدونة.




أما لماذا فهد العسكر، فهي علاقة عشق بالماضي، بالكويت القديمة التي لم يبق لها أثر، لحياة تمنيت عيشها ولم أستطع، ربما حنين لـ"جذر" قديم داخل السور أو خارجه، أما اللقاء الأول مع فهد العسكر فكان على صدر إحدى صفحات التاريخ، وأتذكر كم كان لقاء عاديا جدا، هاوي طرب يلتقي شاعر "كفي الملام"، ثم تحصلت بعدها على كتاب المرحوم عبد الله زكريا الأنصاري "فهد العسكر حياته وشعره"، وما أن قضى المدة القانونية على رف المكتبة، حتى كان اللقاء الثاني.




فهد العسكر ليس مجرد شاعر عاش حياة بائسة خلال الفترة 1917 - 1951، فقد بصره، واعتزل الناس بعد أن اعتزلوه، نزل غرفة بسوق "واجف"، ومات وحيدا بغرفة في المستشفى الأميري، وصلى على جنازته خمسة أشخاص فقط منهم ثلاثة "مهارة"، بل هو أكثر من ذلك، شاعر حاز جوائز عالمية، إلا أن الدولة برجالها ومجتمعها لم تحتف به كدأب الدول الحضارية، فقط لأنه فهد صالح محمد العسكر الذي عاش دون أن يجامل أحدا أو يحرق بخور في الدواوين.




وقف في وجه تيار التخلف الذي دشن نشاطه بالكويت خلال حياته، عرف أن الكويت كوطن ليست مكانا للشرفاء، وأن "الصحو لا يطاق في ذا البلد"، خبر كل هذا منذ ما يزيد على النصف قرن، ووقف على حقائق لا تزال حتى الآن تطالعنا يوميا.




ومن فهد العسكر كانت فكرة التدوين، خاصة أن الأغلب من شعره "حرق" ولم يصلنا منه سوى النزر اليسير، وهي بالتبعية رغبة جادة بالوقوف على الحقائق وتسجيل ما تيسر من ملاحظات، أما لماذا هو ولماذا هذه المدونة، فالكويت بما تمر به من ظروف وأحداث تحتاج إلى جرأة العسكر وصراحته ونظرته للحياة والأهم شاعريته، وعليه كان هذا اللقاء، وبدعكم سيستمر.




أما شعره فهذه قصيدة منه




بأبي هائمةٌ زفّت لهائم




طرقتني فجر يوم المولدِ وأبوها عاكفٌ في المسجدِ

فالتقى الثغرانِ رغم الحسَّدِ وكلانا مُتعب القلب صدي



**




غادةٌ لم تخشَ إنذارَ أبيها لا ولم تحفل بتهديدِ أخيها

حين قالت أمُّها قومي اغنميها ساعةً، هيا معي لا تقعدي



**




فارتدت ثوبَ أخيها وهو نائم وأتت تحرسها، والجو غائم

بأبي، هائمةٌ زفّت لهائم موجعُ القلب جريح الكبدِ



**




فشجا نفسيَ ما مرّ ببالي حين أبكاها شُحوبي وهُزالي

قُلت صونيها فإن الدمعَ غالي أدْمُعاً للروحِ لا للجسدِ



**




ونشرنا وطوينا صفحاتِ وسخرنا من أراجيف الوشاةِ

وتصفّحنا سجلّ الذكرياتِ برهةً واندمل الجرح النَّدي



**




ثم قالت ورذاذ المطرِ حبَس الطير ولمّا يطرِ

هاتِ بنت النخل يا ابن العسكرِ لا يطاق الصحو في ذا البلدِ



**




هاتها بيضاءَ من خمر العراقِ كم بها حلّق بالندمانِ ساقِ

ولنعاقرها معاً قبل الفراقِ ثم قامت ونضت ما ترتدي



**




يا لمرآى شاعرٍ يُسقي غريرة ويناغيها بألحانٍ مثيرة

ولمرآى غادةٍ نشوى صغيرة وهي تسقيهِ وكم قالت: زدِ




**



وشفينا إذ سكرنا الغُللا وتغنّت بهوانا كيف لا

فانتشى الكونُ وقد أصغى إلى صوتها العذبِ الحنونِ الغَردِ



**




واعتنقنا يا لها من لحظاتِ هي سرّ العيشِ بل معنى الحياةِ

من رآنا خالنا صرعى السّباتِ آه لو كان سباتاً أبدي



**




وترشّفنا حُميّا القُبل وتركنا النومَ للغرّ الخلي

وتحدّثنا عن المستقبلِ وأزحنا الستر عن دنيا الغدِ



**




وأفقنا واذا بالشيخِ قادم وكِلانا مطمئنُّ النفس ناعم

وافترقنا ولتقُم شتّى المزاعِم فلظى، مأوى الأثيمِ المعتدي

صح الله لسانك مشكور

صح الله لسانك خوش قصيده